مدائن صالح.. مدينة الصخر المنحوت
في منطقة "مدائن صالح"، التي عُرِفت لفترة طويلة بمدينة الحِجْر، والتي كانت إلى وقت قريب منطقة يُخشى الاقتراب منها، بسبب وصمها دينيًّا باعتبارها منطقة "ملعونة" مُحرَّمة، حيث تروي السردية الدينية أنه عاش فيها قوم "صالح" الذين هلكوا بسبب تكذيبهم لنبيهم، وقتلهم للناقة التي أُرسلت لهم كمعجزة دالة على صدق نبوة أول الأنبياء العرب الذي أرسل لمن أطلق عليهم المؤرخون والنسَّابون المسلمون القدامى بـ"العرب البائدة" أو الثموديين.
وإن كانت تلك الرواية الدينية غير موثقة تاريخيًّا عن مسألة الدمار هذه، وأين وقعت تحديدًا، لكن النصوص التاريخية لا تنكر وجود "الثموديين" باعتبارهم إحدى المجموعات البشرية الأولى التي سكنت تلك المنطقة.
بحسب كلام المؤرخ "جواد علي" في كتابه المهم "تاريخ العرب قبل الإسلام" فقد كان هؤلاء يسكنون شمال غرب الجزيرة العربية، وكانت لهم لغة مكتوبة تشبه طريقة كتابتها الخط المسماري. ثم سكن تلك المنطقة مجموعات قبائل أخرى، منهم اللحيانيون ثم الأنباط الذين استوطنوها، وألحقوها بمملكتهم في البتراء بالأردن، وبنوا فيها مدافن ومعابد ومساكن وآبارًا لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
تُعد منطقة "مدائن صالح" المنطقة الأبرز من حيث الآثار في المملكة العربية السعودية، وبالرغم من احتوائها على ما يُمكن اعتباره متحفًا مفتوحًا يحوي كنوزًا تاريخية كبيرة، فقد صُنِّفت متأخرًا جدًّا -في عام 2008- من قبل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة (اليونسكو) كموقع تراث عالمي، وبذلك أصبحت هذه المنطقة أول موقع في السعودية ينضم إلى قائمة مواقع التراث العالمي، ثم تلا ذلك انضمام حي الطريف في مدينة الدرعية التاريخية، بالإضافة إلى جدة التاريخية.
تقع "مدائن صالح" في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا في محافظة "العُلا" التابعة لمنطقة المدينة المنورة، في منتصف الطريق بين "المدينة المنورة" ومدينة "البتراء" في الأردن، وكانت تلك المنطقة تمثل لقرون عديدة أحد أهم مراكز طريق التجارة في العالم القديم بمنطقة الشرق الأدنى. وكان طريق التجارة هذا، الذي كان يسمى بـ"طريق البخور"، يربط جنوب شبه الجزيرة العربية ببلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر.
[caption id="" align="aligncenter" width="800"] موقع "مدائن صالح" على الخريطة (مصدر الصورة: موقع دخلك بتعرف)[/caption]
[caption id="" align="aligncenter" width="600"] صور لجزء من طريق "البخور" القديم (المصدر: صحيفة "عكاظ" السعودية)[/caption]
بحسب ما أوردته الهيئة العامة للسياحة والآثار السعودية، فقد سُكنت مدائن صالح (أو مدينة الحِجْر) بجوار العلا ومناطق صغيرة في شمال الحجاز من قبل الثموديين في الألفية الثالثة ق.م, وأنشئوا لهم بها مملكة صغيرة أسموها "مملكة ديدان" وفقًا لعالم الآثار "وليام ألبرايت"، ومن بعدهم سكن اللحيانيون في القرن التاسع ق.م. وقد عُثِر في العُلا بالقرب من مدائن صالح على ما يقرب من أربعمائة نقش لحياني، والكتابة اللحيانية هي كتابة محلية حروفها سامية جنوبية وقريبة جدًّا من الكتابة العربية الجنوبية والحبشية، أمّا اللهجة فعربية شمالية وهي أيضًا سامية جنوبية يرجّح آخرون أنها عربية جاهلية نشأت قبل ظهور الإسلام، وتحتوي هذه النقوش والكتابات على بعض أسماء ملوك لحيان، كما أنّ هناك معبدًا يقع في العُلا يعود للحيانيين، وُجِدت فيه تماثيل بطول الإنسان لملوك لحيان، وهذه التماثيل متأثرة بالنحت الفرعوني في النصف الأعلى من الجسم، ولكنها تحمل الطابع العربي المتمثل في شكل الوجه، وما وضع على الرأس بما يشبه العمامة والعقال.
وفي القرن الثاني ق.م احتل الأنباط مدينة الحجر, وأسقطوا دولة بني لحيان، واتخذوا من بيوت الحجر معابد ومقابر، وكانت جزءًا من مملكة الأنباط في الشمال بالبتراء، وقد نسب الأنباط بناء مدينة الحِجْر لأنفسهم في النقوش التي عُثِرَ عليها، لكن مدينة الحجر حوت أيضًا بعض النقوش المعينية واللحيانية.
وكغيرهم من القبائل العربية، كان الأنباط في الأصل من جنوب الجزيرة العربية، وكانوا من الرعاة الرحّل الذين يعيشون في الخيام، وإلى جانب الرعي كانوا يمارسون التجارة، ثم استطاعوا السيطرة على مناطق شمال الحجاز ومناطق بالأردن، وكانت عاصمتهم الأولى والأشهر تاريخيًّا هي "البتراء" التي حكمتها الملكة الشهيرة "زنوبيا"، ثم اتخذوا من "الحجر" أو "مدائن صالح" عاصمة ثانية لهم، لذا يُعد "الحِجر" من أهم حواضر الأنباط بعد عاصمتهم البتراء، إذ تحتوي المدينة على أكبر مستوطنة جنوبية لمملكة الأنباط بعد البتراء في الأردن، والتي تفصلها عنها مسافة 500 كم، ويعود أبرز أدوارها الحضارية إلى القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي.
وقد احتكّ الأنباط بعديد من الحضارات في تلك المنطقة، سواء مع الرومان أو الإغريق أو المصريين، وقابليّة الأنباط للانسجام والتناغم مع مختلف الثقافات والحضارات جعلت المؤرخَ "نيلسون غليك" -الذي يُعتبر من أوائل الباحثين الذين تعمَّقوا في دراسة الحضارة النبطية- يتحدث عنها قائلًا: "الأنباط هم الشعب الأكثر موهبة في التاريخ".
ويعود سبب اختيار الأنباط للحجر إلى عاملين أساسيين، هما: وفرة المياه الجوفية، التي دفعتهم لحفر 131 بئرًا، ووجود الجبال التي تحمي المنطقة (وهو سبب تسميتها بالحجر)، بالإضافة إلى طبيعتها الجيولوجيَّة التي يسهل النحت فيها.
وبالفعل، استعمر الأنباط المنطقة، وشيدوا المقابر في الجبال، وأضافوا لها الكثير من جماليات البناء القديم، كما عملوا أيضًا على استزراع الواحات، وحفر الآبار والخزَّانات لحفظ مياه الأمطار في الصخور، بالإضافة إلى نحت أماكن العبادة في النتوءات الجبليَّة، وساعدهم على ذلك نوعية الصخور التي تتكون من الحجارة الجيرية والحجر الرملي، والتي يسهل النحت فيها، كما أن المياه التي تتسرب للجبال من الداخل تساعد على تآكلها، وصناعة التجاويف العديدة بها.
وعُمر الصخور في تلك المنطقة -بحسب كلام الدكتور "مطلق المطلق"، وهو باحث سعودي متخصص في الآثار- من 400 إلى 500 مليون سنة، وهي صخور رسوبية كانت مغمورة بالمياه حتى وقت جيولوجي قريب، قبل أن تمر منطقة الشرق الأدنى بفترة جفاف كبير نتج عن تحول تلك المنطقة بالكامل لمنطقة صحراوية.
[caption id="" align="aligncenter" width="924"] صورة من جبال محافظة العلا ومنطقة مدائن صالح (المصدر: العربية)[/caption]
استمرت حضارة الأنباط في الازدهار والتوسع في الحجر حتى تحكموا في طرق التجارة في العالم القديم، فاحتكروا تجارة البخور والمُر والتوابل. وكان طريق التجارة القديم يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية حتى يصل إلى الحِجْر، ومن الحجر يتفرع إلى طريقين، يذهب أحدهما إلى البتراء ومصر والشام، فيما يذهب الآخر للعراق. كما كانت الحجر مركزًا رئيسيًّا لطرق القوافل القديمة، وكانت تتحكم في طرق القوافل، وبلغ نفوذهم -كما يذكر المؤرخون- حتى شرق شبه الجزيرة العربية وجنوبها.
عندما خشي الرومان في عهد الإمبراطور تراجان على نفوذهم بالشام من هذه المملكة، قام الرومان بشن حرب كبيرة على الأنباط، واستطاع الرومان هزيمتهم في الحجر سنة 106م، وبالتالي أصبح جزء صغير من الحجاز والذي يشمل الحجر (مدائن صالح) تحت إدارتهم، ولم يستطع الرومان السيطرة الكاملة على الحجاز ولا الفرس أيضًا لأسباب مرتبطة بجغرافيا المكان، وطبيعة القبائل المتناثرة، وعدم وجود أراضٍ زراعية بها يطمع بها مستعمر ما. ولم يكتفِ الرومان بالقضاء على المملكة النبطية في تلك المنطقة فقط؛ وإنما قاموا بتحويل مسار التجارة من المحور البري الجنوبي الشمالي في شبه الجزيرة العربية إلى طريق البحر الأحمر، كما التحق بعض الأنباط كجنود في جيش الإمبراطورية الرومانيّة، وهو الأمر الذي أكّده أيضًا الباحث "جواد علي" في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام".
لاحقًا، انقطع سيلُ الهجرة عن تلك المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، التي واجهت المسلمين لأول مرة في "غزوة مؤتة"، ثم في المواجهة الباردة -التي لم يحدث فيها قتال بين الرومان والمسلمين بعكس مؤتة- في غزوة "تبوك" التي قادها النبي بنفسه، وحينها مرَّ النبي -كما تذكر كتابات السيرة- على منطقة مدائن صالح، أنذر أصحابه بعدم الاقتراب من المنطقة ومن البئر الذي كان يستقي منه الثموديون، إلى آخر القصة المعروفة.
في العصر الإسلامي كانت "مدائن صالح" محطة أساسيَّة على طريق الحُجَّاج القادمين من الشام، وبُنيت فيها قلعة وبركة لخدمة الحجاج. وقد ذكرها العديد من الرحالة العرب كالمقدسي وياقوت الحموي وإبراهيم بن شجاع، كما وصفها ابن بطوطة في إحدى رحلاته، إلا أنه لم يذكر أي وجود بشري فيها، حيث تحدث عنها قائلًا: "وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة، يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت، إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك، وبينها أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه"، كما ذكرهم المؤرخ "ديودور الصقلي" معتمدًا على ما كتبه "هيرونيموس" الذي سجّل كثيرًا من مشاهداته عن الأنباط في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. وصوّر الجغرافي "سترابون" جزءًا من حياتهم في القرن الأول الميلادي اعتمادًا على ما نقله عن "أغاثر خيدس" و"أثنودور الطرطوسي" الذي يقال إنه ولد ونشأ في البتراء عاصمة الأنباط الأولى.
وتحت الحكم العثمانيّ، تم بناء حصن فيها في الفترة ما بين 1744-1757 والذي كان ذلك جزءًا لسلسلة من التحصينات تم بناؤها من أجل حماية طريق الحج إلى مكة، والذي لا يزال موجودًا حتى الآن. وفي عام 1900 أصدر السلطان العثماني قرارًا بإنشاء سكة حديد الحجاز، وقد اكتمل تأسيس تلك المحطة الحديدية في عام 1908، وكانت هذه المحطة تصل ما بين مدينة دمشق والمدينة المنورة في منطقة الحجاز، وكان الغرض من المحطة خدمة حركة نقل الحجاج، وفي الوقت ذاته تسهيل السيطرة العثمانية على مناطق الحرمين والشام واليمن. واستمر تشغيلها حتى عام 1916 قبل أن تتعرض للتخريب أثناء الحرب العالمية الأولى.